بيقولوا بكي في السجن وقال «أنا خدمت البلد دي» حسبي الله ونعم الوكيل.ونسي يقول أي بلد يقصدها.. ولما هو يفوض أمره لله فينا.. أحنا نعمل إيه؟إحنا اللي شفنا الموت «علي وش الدنيا» جوعنا واتعرينا و«شربنا مية المجاري» وضاع مستقبل عيالنا قدام عنينا.
.. لو يسمحو له يمشي خطوتين جنب السجن يشوف عمل إيه فينا.. يمكن ساعتها يحمد ربنا ويطلب المغفرة ويتوب.
جيران مبارك الجدد «عينة كأنها مختارة بعناية من رعايا الرئيس المخلوع».
سكان طرة وعزبة النصر بكوتسيكا.. هم أقرب المجاورين للسجن الآن.
.. لا هم كانوا يحلمون بزيارة حتي «رئيس حي» ولا هو كان يري في أسوأ أحلامه ان يتنفس هواء أكثر مناطق العالم تلوثاً بالسموم.. ولا أن يجاوره طارق الحداد اللي شاف المر في عهده لـ «يستر» أخواته البنات.
ولا محمد «طالب الثانوي المتفوق» المحروم من دخول الجامعة بسبب «لقمة عيش».
.. جيران مبارك الجدد.. ليسوا سعداء بهذه الجيرة.. وفي قلوبهم حسرة وغضب تجاه من ظلمهم ودفن أحلامهم في قاع الفقر..
.. بعضهم عبر عن «فرحته» لانه جاء يوم تُرد فيه المظالم أسود علي كل ظالم..
والآخر اكتفي بقوله «سبحان المُعز المذل».
في طريقي إلي المناطق المحيطة بسجن طرة.. كان في ذهني حي مصر الجديدة الرائع الذي اختاره مبارك للسكني مفضلاً إياه عن قصور عابدين.. وتذكرت منتجعات شرم الشيخ الساحرة التي اعتبرها ملكاً خاصاً له وحرم «الرعية» من مجرد التفكير في الاقتراب منها.. نعم عاش مبارك في جنات مصر يتنقل بين القصور ينعم بشمسها وهوائها فيم عاش الملايين في شقوق الجبال وعشش الصفيح ولجأ ملايين إلي القبور يشاركون الموتي مأواهم.
السيارة تشق الطريق إلي السجن، حيث استقر الحال برئيس مصر السابق.. الأتربة تشن هجمات علي أعيننا تزكم أنوفنا والسماء اختفت بسبب سحب الغبار الأسمنتي القاتل الذي ذهب بالآلاف من الشبان الي معهد السرطان، فتلك هي أكثر مناطق العالم تلوثاً.. والتي بح صوت ساكنيها استنجاداً بالمسئولين ان يرحموا أطفالهم من التحجر الرئوي وأمراض الصدر ولم يسمعهم أحد.
.. كلما اقتربت السيارة من سجن طرة الذي يعد من أهم معالم المنطقة بعد مصانع الأسمنت العملاقة.. رسمت صوراً لما يمكن أن آراه .. لم أر مبارك أو العادلي لكنني سمعت أصوات ركاب «التكاتك» الذين يروحون ويجيئون أمام باب السجن الفخم قائلين.. ده نزل بالطيارة ما حدش شاف حاجة فيما يقول صبي لصاحبه: «يعني هتشوف إيه ما هو كان في التليفزيون «فرجة الخلق كلها».. حراسة شديدة.. ضباط وعساكر وأمناء منتشرون في الشارع الطويل أمام بوابة السجن بالإضافة إلي طلاب معهد الأمناء.. والعاملون بقطاع الأمن المركزي وعلي بعد أمتار منفذ بيع خبز تابع للقطاع تجلس في مواجهته سيدة في انتظار توزيع الخبز..
قالت: مبارك إيه ما تشوفوا العيش اللي مش لاقيينه.. الناس تعبت.
قاطعها شاب كان يمر في الشارع بجوار ديوان السجن ما هو السبب يا حاجة .. لو كان بيراعي ربنا فينا كنت تلاقي العيش واللحمة كمان.
علي بعد حوالي 200 متر مقهي كبير.. قال لنا أحد رواده الدنيا كانت مقولبة.. علي إيه مش عارف.. أهو مسجون زي أي مسجون.. لكن «محمود ذو الستين عاماً».. ارتشف من كوب الشاي بيديه وقال: مين يا بني.. ده طوروا المستشفي مخصوص عشانه ثم خاطبني قائلاً: السجن ده من زمان والمستشفي مبنية في أوائل الأربعينيات أيام الإنجليز وشكلها إيطالي ومتجدد قبل كده سنة 2005.
علي مقربة من سجن طرة في الجهة الخلفية أكثر من 60 ورشة ما بين حدادة وميكانيكيا وكهرباء وخراطة.. «أسطوات وصبية وأطفال يعملون ولا حديث لهم إلا مبارك والسجن.. وكما أكد لي الأسطي مرسي ان هذا هو المكان الطبيعي لمبارك وأولاده ورجالته وفيه تكثيف أمني خوفاً من أهالي الشهداء الذين يرون ان دم أبنائهم «ضاع هدر».
ثم قال الأسطي متحمساً: دي جيرة ممتازة والله احنا فرحانين لأنهم مذلولون بعد 34 سنة ذل في خلق الله.
أما محمد جمال صبي لم يتعد عمره 16 عاماً اختفت ملامح وجهه خلف شحوم الورشة قال وقد دمعت عيناه: كان حلم عمري أدخل الجامعة وكنت متفوقاً اشتغلت في الورشة علشان اصرف علي أمي وأخواتي، وأبويا «عنده سرطان» وما يقدرش يشتغل وبصراحة مبارك ده مكانه الطبيعي لانه السبب في ظلمي أنا وأخواتي وأبويا اللي مش لاقي علاج ولسه عقاب ربنا في الآخرة.
أما الشاب طارق الذي يعمل في ورشة خراطة مجاورة للسجن مستاء بشدة مما سمعه وقال: بيقول انا خدمت البلد دي.. أي بلد؟
أنا شفت المر علشان أجوز أخواتي البنات لا سكن ولا شغل ولا عيشة كويسة.
< إيه إحساسك وأنت عارف انه مسجون جنبك؟
- إحساس ان كل ظالم له يوم والحمد لله، انه وقع في شر أعماله، ولو فيه مكان اسوأ من كده يتعاقب فيه وقال: كانت الحكومة مانعة الكهرباء والمياه لم تدخل إلاّ من 6 شهور فقط عندما قطعنا الطريق وكنا شغالين بـ «سرقة الكهرباء وكل شهرين ندفع 6 آلاف جنيه».
ربنا اللي عمل كدة.. كان نايم ع الحرير وإحنا طالع عنينا، لو كان عنده ذرة ضمير ما كانش عيل زي ده يشتغل في مسابك الحديد ويتحرق بالنار..
.. كلمات قالها عم محمد السيد وهو يشير إلي طفل بجواره يطعمه بعضاً من «الطعمية الباردة» افترش الاثنان «مصطبة» بجوار المقابر التي تبعد قليلا عن السجن.
كانت هذه هي وجبة الفطار والغداء لـ نجار المسلح الذي يعمل في ترميم المقابر ثم رد صارخاً «قطيعة».. عندما سألته إذا ما كان يعلم بجيرة مبارك له فأردف قائلاً: كان نفسي ولاده يتحبسوا بعد الفساد اللي عملوه إحنا ولادنا غلابة ومستقبلهم ضايع، مبارك أصلاً «ميت» وأولاده هينعموا في خيرنا وده حرام.. الإحساس بالظلم مازال بداخلنا.
في كشك صغير صنعه من الخشب جلس عم حسين وهو ميكانيكي يعيش في هذا المكان منذ 20 عاماً تقريباً لم نلمح في عينيه دهشة من جيرة رئيس مصر المخلوع، وقال في هدوء: علشان يبقي عبرة للي جاي وراه.. هذا الرجل - يقصد مبارك - أساء لشعب طيب لم يكن ينتظر منه كل هذا، كلنا غلابة وأقل شيء يرضي الفقير.
يفصل المقابر عن الشارع لسجن طرة شريط سكة حديد «الجيش».
كان ثلاثتهم يعملون في دأب شديد تحت حرارة أشد في عز الضهر.. «عماد الدين وإسماعيل وأشرف» بجوارهم حجرة صغيرة مصنوعة من الخشب في أحد الأركان «زير مياه» قديعينهم علي حرارة الجو.. وأكثر من علبة كشري متناثرة علي مقعد خشبي يتناوبون الجلوس عليه للراحة.
قال عماد: نعمل هنا منذ سنين طويلة علي خط الجيش الحربي ولم يخطر ببالنا أن مبارك سيكون علي بعد خطوات نفسي يسمحوا لي بزيارته، نفسي أقوله كلاما كثيرا عن مرتبي كان 300 جنيه وعندي 7 عيال، بعد الثورة اتحسنت الأمور شوية.. وأنا 25 سنة عامل صيانة في السكة الحديد.
أما الحاج أشرف قال: الله الوكيل يستاهل ظلمنا كثيرا ما فيش تعيينات والشباب مش لاقي شغل، وأضاف إسماعيل: خلوه في حاله.. إحنا عاوزين رئيس عادل يأمن علي العمال.. بيموتوا وعيالهم يجوعوا».
علمت ان عامل الصيانة لديه 6 أولاد يكاد يجزم بأن مبارك شخصياً مسئول عن معاناته فراتبه لا يكفي إطعام هؤلاء.. ومنهم شاب حصل علي الثانوية العامة وجمع أخوته له المال ليلتحق بالكلية قال: لولا مساعدة إخوتي لما استطعت تربية أولادي وأنا عامل ومؤمن عليّ وهناك آلاف يكبرون دون تعيين ولا يجد أولادهم من يربيهم.. هو المسئول عما حصل لنا وهذا عقابه.
ضحايا النصر
ما بين قطعة أرض فضاء تعلوها أكوام القمامة وبعض الحجرات المنفصلة المتصلة يتناثر سكان «عزبة النصر» تحدهم يميناً أملاك القوات المسلحة ويساراً المقابر يليها السجن.
الذباب يشكل ما يشبه الغطاء لبيوت تحيطها أشجار زابلة الأوراق وتحاصرها أسراب الفئران.
وكما تقول «صباح» الجالسة أمام بيتها تبيع الحلوي للأطفال.. والثعابين أيضاً تلدغ الجميع.
ولا في الخيال ان تكون حكومة مصر السابقة ورئيس البلد المخلوع جيرانا في نفس المكان الذي هو أصلاً من صنيعة هؤلاء الذين حكموا فظلموا.. وتضيف صباح وهي تهش أكوام الذباب من فوق بضاعتها الرخيصة إلا انها لم تكف عن الدعاء «ربنا يصلح الحال.. نفسنا نعيش في بيوت نضيفه.. أنا جوزي عنده عربية كارو، مريض بصدره، وقالوا في المستشفي الجو مش نضيف ولازم نمشي وتساءلت نمشي فين؟
لكن عبدالنبي جارها قال فيما يشبه الصراخ: تروح مكان يعيش فيه البني آدمين وأشار إلي مكان أخذ عينات الدم في ذراعه قائلاً: عملية الغدة فشلت بسبب الجو ومصانع الأسمنت في كوتسيكا وطرة.. إحنا بنموت وأولادنا بتدمروا ما حدش عمل لنا حاجة..
عبدالنبي تقدم بطلب أكثر من مرة للحصول علي قرض ليتمكن من استئجار شقة في مكان بعيد عن التلوث لكن «عقبات الدنيا وقفت في وشه» كما قال.. وأشار إلي رجل عجوز يطل بوجهه الشاحب من باب متهالك «الراجل ده بيموت بسبب نظام مبارك مش لاقيين له علاج.. وقلنا الثورة هتصلح الأحوال.. وبعد سنة ونص مافيش حاجة.
سكان عزبة النصر أطفال ونساء وعجائز يسكنون بيوت لا تدخلها مياه الشرب.. وتهاجمها مياه الصرف تغرق الأطفال في أسرتهم لانها منخفضة عن سطح الأرض.. وبالجوار قطعة أرض كبيرة تمثل ضعف ما يشغله السكان لكنها محاطة بسور لا يمنع عنهم أكوام القمامة.. يقولون انها أرض ملك القوات المسلحة .. يتساءل الأهالي ماذا لو بنوا فيها مستشفي نعالج فيه أطفالنا بدلاً من ان نذهب لمستشفي المعادي التي تبعد عننا كثيراً.
سرق الحصان
رضا علي بطل مسرعاً وفي يده أوراق تؤكد براءته من تهم سرقة كابلات..بكي الرجل وهو يحمل اثنين من أطفاله الخمسة وقال: نظام مبارك سرق حصاني من سنة 2006.. أخذوه وباعوه وكان مصدر رزقي أنا وعيالي ومعي ورق استلامه من وقتها .. لم تستطع زوجته ان تحبس دموعها قالت إحنا معزولين في الغربة ولا أحد يدري بنا يا ريت يسمحوا لمبارك يتمشي خطوتين ويشوف حالنا بعينيه.. ويقدر الظلم اللي عايشينه.. وتساءلت الأم المسكينة.. هل يستطيع الرئيس الجديد ان يرد مظالمنا.. هل من الممكن أن نعيش في مكان «نضيف» وعيالنا يتعلموا ثم تساءلت السؤال الأهم وتضامنت معها أكثر من امرأة اشتركت في الحديث..
هل صحيح أن سجن مبارك هو نهاية ظلم الناس اللي زينا؟!