د. كمال الجنزورى.. رجل أثبتت الأيام والظروف قدرته على إدارة الأزمات ومواجهتها وحسن التصرف حيالها مهما عظمت.. فى عهد المخلوع حسنى مبارك ارتبطت به عدة ألقاب منها وزير الفقراء والوزير المعارض وفى 1999 لقب بـ«رئيس وزراء محدودى الدخل» بعد توليه مهمة رئاسة الوزراء التى تركها رغما عنه بعد ثلاث سنوات.
عاش الجنزورى بعيدا عن الأضواء للدرجة التى اعتقد معها كثيرون تحديد إقامته أو إجباره على الصمت.. وجاءت ثورة يناير المجيدة لتحيى الأمل داخله من جديد.
عقب الثورة تولى رئاسة الوزراء خلفا للفريق أحمد شفيق الذى عينه المخلوع قبيل رحيله وعصام شرف الذى جاء بمباركة ثوار مصر ومن قلب ميدان التحرير، لكن سرعان ما هتف الثوار أنفسهم ضد شرف بـ«ارحل»، هنا قدم المجلس العسكرى الجنزورى للمنصب باعتباره منقذا للبلد بعد تردى الأوضاع الاقتصادية والأمنية.
أعلنت حكومة الجنزورى الثانية منذ يومها الأول أنها «إنقاذ وطنى» مهامها اقتصادية وأمنية فى المقام الأول، لكن الرفض السياسى لها حال دون ممارسة عملها بمقر مجلس الوزراء فى شارع «قصر العينى» الذى سالت فيه دماء المتظاهرين بالتزامن مع بداية عمل هذه الحكومة.
بمرور الوقت ومن على بعد أمتار من مجلس الوزراء قرر مجلس الشعب «المنحل» سحب الثقة من الحكومة بعد بيانها الأول إلا أن الرجل استمر وكرس وقته وجهده ووزراءه لدفع عجلة الحياة داخل ممر محاط بالمشكلات المتنوعة.
وفى حوالى 232 يوما - هى عمر الحكومة - عقد الجنزورى 155 اجتماعا وزاريا وشكل 125 لجنة لمتابعة قراراته التى بلغت 130، ووصل إلى نقطة النهاية فى 26 يوليو الجارى ليسلم الراية إلى رئيس وزراء جديد اختاره أول رئيس منتخب بعد الثورة.. ليقول المصريون: «وداعا د. كمال الجنزورى» من عالم السياسة وربما إلى الأبد.
سبعة أشهر و19 يوميا هى عمر حكومة الجنزورى بالتمام والكمال.. كانت البداية بحلف 29 وزيرا لليمين الدستورية عصر الأربعاء 7 ديسمبر 2011 أمام القائد الأعلى للقوات المسلحة المشير حسين طنطاوى بمقر وزارة الدفاع والنهاية يوم الخميس 26 يوليو 2012 لتسلم الراية إلى الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء المكلف من محمد مرسى، أول رئيس مدنى منتخب بعد الثورة، بتشكيل الحكومة.
وما بين البداية والنهاية عاشت حكومة الجنزورى صراعا على مختلف الأصعدة بدأ منذ اليوم الأول لتوليها برفض الثوار لها، وهو الرفض الذى سرعان ما انتقل إلى البرلمان وتبعه سيل من الاستجوابات انتهت فى أكثر من مرة بسحب الثقة من الحكومة، خاصة بعد بيانها الأول، ومع رفض المجلس العسكرى إقالتها استمرت الحكومة فى عملها واستقر وضع الجنزورى بعد الانتخابات الرئاسية.
وبسبب انهمار دماء المتظاهرين فى شارع مجلس الوزراء عقدت الحكومة اجتماعاتها الـ 25 - بكامل بتشكيلها - إضافة إلى 130 اجتماعا للجان الوزارية داخل مقر وزارة الاستثمار بمدينة نصر متخذة من يوم الأربعاء موعدا أسبوعيا للاجتماع، كما عقدت فى المقر ذاته الاجتماعات الطارئة والخاصة على مدار عمرها.
وإذا كانت اجتماعات مجلس الوزراء بكامل تشكيل الحكومة بلغت 25 اجتماعا فإن اجتماعات اللجان الوزارية وصلت 130 اجتماعا كانت فيها فايزة أبوالنجا «المرأة الحديدية» ووزراء الاقتصاد والتنمية والقطاعات الأمنية من الوجوه الثابتة فيها.
كان الجنزروى شكل سلسلة من اللجان الوزارية لمتابعة تطبيق القرارات الرسمية للمجلس والمرتبطة بأكثر من وزارة وفقا لطبيعة القرار، وكان لوزارات المجموعة الاقتصادية والأمنية نصيب الأسد من هذه الاجتماعات، حيث حضرت فايزة أبوالنجا وزيرة التعاون الدولى قرابة 120 اجتماعا وحضر كل من وزير الداخلية ووزير المالية ووزير البترول معظم هذه الاجتماعات التى كانت تعقد بشكل نصف أسبوعى فى مقر وزارة الاستثمار بمدينة نصر.
وبلغت اجتماعات الجنزورى مع المحافظين 5 اجتماعات، فبعد الانتهاء من تشكيل الحكومة بدأ مشاوراته حول مصير المحافظين إلى أن أعلن مجلس الوزراء إعادة تشكيل حركة المحافظين ليجتمع معهم مرة كل شهر باستثناء محافظ بورسعيد الذى أقيل ومجموعة من القيادات الأمنية عقب أحداث مذبحة الاستاد.
وفى سبيل حرصه على التواصل مع ممثلى الشعب فى الدوائر المختلفة حرص الجنزورى على الاجتماع مع نواب البرلمان بالمحافظات فيما عرف بلقاء المجموعات البرلمانية التى وصلت إلى 20 اجتماعا تغيب عنها نواب حزب الحرية والعدالة بقرار من الحزب، وكان الهدف من هذه الاجتماعات هو التعرف على المطالب الجماهيرية العاجلة، خاصة فى مجالات خدمات الصحة والتعليم ومياه الشرب والصرف الصحى والنقل والطرق.
وبالطبع لم يقتصر نشاط حكومة الجنزورى على الاجتماعات، بل أصدرت 130 قرارا كان %40 منها - وفق إحصائيات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء - اقتصادية لدعم الاقتصاد المصرى الذى بدأ يتعافى خلال الستة الأشهر الماضية مقارنة بالشهور الأولى من عمر ثورة يناير.
وفى المرتبة الثانية كانت القرارات الاجتماعية المتعلقة بملفات يومية ومعيشية والمرتبطة بمختلف فئات المجتمع مثل الفلاح والعامل والمعلم والموظف وأرباب المعاشات والمصابين وأسر شهداء الثورة والأسر المعيلة، إضافة إلى تقديم الرعاية الصحية لأطفال المدارس لتمثل القرارات الاجتماعية نسبة 30 % من قرارات الحكومة.
وحصد الملف الامنى %20 من قرارات مجلس الوزراء الذى ربطه الجنزروى فى العديد من الاجتماعات الوزارية المشتركة بالقرارات الاقتصادية، مؤكدا ارتباط الاستقرار بدفع عجلة الاقتصاد.
وجاءت القرارات السياسية فى ذيل قرارات الجنزورى بواقع %10 من القرارات التى ارتبطت إلى حد كبير بتأمين الانتخابات البرلمانية والرئاسية ونجحت الحكومة بمشاركة المجلس العسكرى فى إنهاء الفترة الانتقالية وتسليم السلطة لأول رئيس مدنى منتخب.
الملف الأمنى فى مقدمة اهتمامات حكومة الجنزورى بقيادة اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية رغم أزماته مع الإخوان وتفصيليا جاء الملف الأمنى فى مقدمة ملفات عمل الحكومة وحرص الجنزورى منذ اختياره اللواء محمد إبراهيم يوسف وزيرا للداخلية وحتى نهاية مدته على الدعم الكامل لجهاز الشرطة بهدف رفع قدرتها وإعادة الأمن للشارع وحماية المنشآت، وفى ذلك تم اتخاذ العديد من الإجراءات لزيادة التواجد الأمنى فى الشارع، ومن أهمها نشر الدوريات لتأمين الطرق الرئيسية والسريعة ونصب الأكمنة الثابتة والمتحركة لملاحقة وضبط المساجين الهاربين والمسجلين خطرا والأسلحة ومداهمة البؤر فى مختلف المحافظات المختلفة، وهذه الإجراءات انعكست بشكل كبير على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، حيث انخفضت أعمال العنف بشكل كبير ليؤكد الكثير من المواطنين شعورهم بعودة الأمن خاصة فى الشهرين الماضيين.
وكان من أهم القرارات الاقتصادية لحكومة الجنزورى خفض الموازنة العامة للدولة بنحو 20 مليار جنيه وبما لا يمس محدودى الدخل ضمن حزمة من الإجراءات اتخذتها الحكومة، ومنها إصدار سندات إيداع للمصريين المقيمين فى الخارج لعمل ودائع بنكية بالعملة الصعبة واتخاذ الإجراءات النقدية والمالية لإيقاف تدهور الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية، فبعد أن كان متوسط الانخفاض الشهرى من الاحتياطى النقدى فى الفترة من يناير 2011 وحتى يناير 2012 نحو 1.5 مليار دولار، انخفض إلى 600 مليون دولار فى فبراير 2012.
واستطاع الجنزورى إعادة مستحقات المصريين المتضررين من حرب الخليج والبالغة نحو 2.5 مليار جنيه «409 ملايين دولار»، والمعروفة بالحوالات الصفراء بعد أكثر من عشرين عاما من المطالبة دون جدوى.
وشملت قرارات حكومة الجنزورى الاجتماعية زيادة معاش الضمان الاجتماعى بواقع 50 جنيها للأسرة شهريا ليصبح 200 بدلا من 150 جنيها اعتبارا من يناير 2012 بتكلفة شهرية ترواحت بين 110 و120 مليون جنيه، وارتفع عدد المستفيدين بهذا المعاش من 1.25 مليون إلى 1.50 مليون أسرة.
كما شملت قرارات حكومة الجنزورى الاجتماعية إنشاء مركز قومى لرعاية أسر الشهداء والمصابين فى الثورة ورفع قيمة معاشات أسر الشهداء إلى 1750 جنيها مع صرف معاش استثنائى للمصابين - حسب نسبة الإصابة - يقدر بنحو 1725 جنيها شهريا إضافة إلى تخصيص شقق سكنية للمصابين وتخصيص 52 مستشفى لعلاجهم بالمحافظات.
ووسط كل هذه الإنجازات واجهت حكومة الإنقاذ الوطنى العديد من الأزمات لعل أبرزها أحداث مجلس الوزراء ومذبحة استاد بورسعيد وسفر الأمريكان المتهمين بالتمويل الأجنبى المخالف للقانون فسحب البرلمان للثقة منها.
كانت البداية مع الأزمات بعد أن كلف المجلس العسكرى للجنزورى بتشكيل الوزارة ومنحه صلاحيات واسعة بعد مليونية جمعة الفرصة الأخيرة، التى بعدها استقالت حكومة عصام شرف وبمجرد أن ترددت أنباء عن تشكيل وزراة الجنزورى حتى انتفض المتظاهرون بميدان التحرير رافضين تولى الجنزورى نظرا لكبر سنة «77 عاما»، ولكونه أحد رجال النظام القديم الذى شغل فيه مناصب عدة آخرها رئاسة الوزراء فى 1996.
وشهدت الساعات الأولى للإعلان عن تشكيل حكومة الجنزورى حادثا مؤسفا، ففى تمام السابعة من صباح 26 نوفمبر 2011 دهست إحدى سيارات الأمن المركزى الشاب «أحمد سرور» 19 عاما أثناء محاولة فاشلة لفض الاعتصام الموجود أمام مبنى مجلس الوزراء الذى استمر أياما وأسابيع ما أسفر عن حرمان الجنزورى ووزرائه من ممارسة عملهم بعد حلف اليمين الدستورية فى مبنى مجلس الوزراء بشارع «قصر العينى» ونقل مقر اجتماعهم إلى مبنى الهئية العامة للاستثمار.
وبعدها بأقل من 3 أسابيع وقعت أحداث شارع مجلس الوزراء التى راح ضحيتها 16 شهيدا بينهم الشيخ عماد عفت، إضافة لسحل وتعرية فتاة شارع «قصر العينى» على يد قوات الجيش، وهو الحادث الذى كان له رد فعل قوى فى مليونية حقيقية كانت الأولى التى تنظم يوم ثلاثاء وليس الجمعة تحت شعار «حرائر مصر».
ورغم سيل الدماء على أرض شارع مجلس الوزراء جراء استخدام العنف فى تفرقة المتظاهرين أنكر الجنزورى استخدام الأمن للأسلحة النارية، متجاهلا عشرات الشهادات الموثقة والفيديوهات التى شاهدها الملايين على مواقع التواصل الاجتماعى بعكس كلامه ما أدى إلى تنبؤ العديد برحيل حكومة الجنزروى وقتها لكن هذه التوقعات فشلت.
فى يوم الأربعاء الأول من فبراير 2012 وقعت مذبحة استاد بورسعيد التى راح ضحيتها ما يزيد عن 73 شهيدا وعشرات المصابين بعد اعتداء مسلحين على مشجعى النادى الأهلى، وجاء رد فعل الجنزورى فى مؤتمر صحفى بعد ثلاثة أيام من المذبحة، حيث قال: «لو قلت إنى حزين لا يكفى.. وإحدى الفضائيات سألت أين رئيس الوزراء؟ أقول لها: رئيس الوزراء لم يخلع ملابسه من أول إمبارح». وفى مارس 2012 غادر الأمريكان المتهمون فى قضية التمويل الأجنبى مصر بعد قرار النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود برفع أسمائهم من قوائم الممنوعين من السفر، لإسدال الستار على القضية التى أثارت توترا حادا فى العلاقات بين مصر والولايات المتحدة، وذلك رغم تأكيد الجنزورى بأن مصر «لن تركع»، وأنه يرفض الضغوط الأمريكية للإفراج عن المتهمين الأجانب وبينهم أمريكيون.