تمكنت «اليوم السابع» من اختراق أكبر تشكيل يعمل فى التنقيب عن الآثار فى منطقة الدويقة، وتوصلت إلى عشرات الأنفاق يتم حفرها فى المنطقة، وخلف كل نفق قصة وسمسار ووسطاء، وأصحاب نفوذ، تمتد شبكتهم المعقدة إلى جمال وعلاء مبارك، حسبما أكد زعيم هذه المجموعة، بنفسه لمحرر الجريدة الذى عمل معه 4 أيام، وتمكن من اختراق عالمه السرى.
عندما قررنا النزول إلى منطقة الدويقة للبحث عن مناطق الخطر والصخور المهددة بالانهيار التى يعيش عليها المئات من الأسر المصرية، التى تبحث عن حياة أفضل وفرصة عمل من أجل لقمة العيش، صادفنا قصصا أغرب من الخيال عن قيام أشخاص بالتنقيب عن آثار، تحت الأنقاض بين أفاع وعقارب، وأحجار متوحشة تلتهم فى كل مرة فردا منهم.
الطريق إلى عالم سماسرة الآثار، يبدأ من قهوة الحرفيين إحدى مقاهى المنطقة، من أجل التوصل إلى زعيم المافيا، بدأنا الحديث مع عصام، الذى يعمل فى صناعة الأحذية، وهو عمل لا يكفى لتوفير سوى «عشة» لأسرته تعلو جبل الدويقة، مهددة بالانهيار فى أى لحظة، فأصبح الشارع ملجأ لأطفاله الثلاثة، بينما فضلت زوجته الإقامة لدى والدها.تتشابه حالة عصام مع عشرات القصص لساكنى المنطقة، لكنه رغم ضيق ذات اليد رفض العمل لدى تجار الآثار، مفضلا فضح أعمالهم، حيث وافق على اصطحابنا إلى عالم الآثار ومساعدتنا فى الوصول إلى تجار الآثار دون الكشف عن هويتى.
بدأت الرحلة بصحبة عصام، وعم محمد الخارج من السجن بعد 16 عاما خلف القضبان.
الحديث مع عصام وعم محمد دفعنا للبحث عن أحد السماسرة، وسط مخاطر شديدة، بسبب البلطجية المتواجدين بكثافة فى المنطقة، قلنا لأحدهم على المقهى بصوت خافت: «أنا عاوز اشتغل مع بتوع الآثار لأتمكن من دخول النفق»، حالة ارتباك وذعر شديد تملكت الرجل، حاولت طمأنته بقولى: «أنا صحفى ودورك مساعدتى فى المهمة»، صمت قليلا ثم فجر مفاجأة قائلا: «أنا على اتصال بزعيمهم المتخصص فى التنقيب عن الآثار بالمنطقة، وعرض على من قبل العمل معه لكننى رفضت»، توسلت إليه بالمساعدة، فطمأننى ووعدنى باللقاء مع «الدكتور جمال» الذى يزعم أنه خبير جيولوجى.
إلى هنا القصة لم تنته، حيث التقيت هذا الدكتور بجوار النفق، بصفتى ابن خالة عصام، من إحدى قرى مدينة طنطا، بزعم عثورى على مقبرة آثار أسفل منزلى، وأرغب فى مساعدته لى لاستخراج محتوياتها من الآثار، عبرنا جبل الحرفيين الذى يوصلنا إلى النفق المراد، واتجهنا يسارا إلى «الغرفة» التى يسكن بها «زعيم المجموعة» وساعدنى التحدث بلغة أهل الريف بعض الشىء حتى اطمأن لى السمسار، وبعدها توقفنا فجأة أمام المنزل وبعد لحظات خرج «الدكتور جمال» ونادى «اتفضلوا تعالوا».
سألنى «الدكتور جمال» عن سبب الزيارة الأولى إلى منطقة الدويقة، بادرته دون تردد بالرغبة فى المساعدة لاستخراج الآثار من أسفل منزلى بطنطا والرغبة فى الحصول على المال الفاحش فى أسرع وقت.
البئر الذى يقودك إلى الآثار
خيمت على مشاعر الارتباك، حيث قادنا الدكتور جمال إلى غرفة منعزلة فى آخر المكان، تسودها أضواء خافتة، وأثاثها مكون من مقعدين وبرميل مياه يتم استغلاله كمنضدة، جلس الدكتور جمال على أحدهما وجلست أمامه مباشرة على المقعد الآخر، وعصام بجانبنا، حيث بدأ الحديث موجها كلامه إلى جمال «قصدك فى خدمة يا دكتور» أشار لى «ده ابن خالتى وعزيز عليا وعثر على مقبرة تحت بيته وعاوز مساعدتك ياريت تخلص الموضوع ده وأنا أضمنه برقبتى».
أثناء نزول البئر
قبل أن يسترسل عصام فى الحديث قاطعه الدكتور جمال وسألنى باستنكار «إنت عاوز منى إيه بالظبط»، رحت أسرد قصة ملفقة حول الظروف والمعيشة وصعوبة الحصول على فرصة عمل بعد التخرج، حتى أقنعته أن الخيار الوحيد أمامى، استخراج الآثار المدفونة أسفل منزلى، بعد فترة صمت قصيرة، بدت ملامح التأثر على وجهه وحاول تهدئتى قائلا برفق «متقلقش لازم أزورك فى طنطا وأساعدك فى الموضوع دا»، وأقسمت له بإعطائه كل ما يريد من طلبات.
استكمال الزحف للخروج
عندما دقت الساعة الواحدة صباح يوم 25 يناير الماضى، كانت الطمأنينة قد تسللت إلى قلب زعيم المجموعة، حيث أدلى الدكتور جمال بتفاصيل عن النفق الذى يقوم فيه حاليا بعملية التنقيب عن الآثار وروى التفاصيل التى مثلت الصدمة نظرا لخطورتها، حيث كشف الرجل عن معلومات قال أنها تدين بعض أفراد النظام السابق، وأيضا بعض رجالاته «الفلول»، من جانبى كان الصمت هو حليفى، حيث حرصت على تشعيل جهاز التسجيل فى هاتفى، بينما يروى قائلا: «هناك 30 واحد شغالين فى عملية التنقيب»، مشيرا إلى عدة مفاجآت، أولها أنه سبق أن اتهم فى قضية تنقيب وهدم منزل على 7 أسر، ثانيها أن الحكومة تعلم بأفعاله وقسم شرطة المنشأة يؤمنه خلال عملية التنقيب، ثالثها: «جمال وعلاء ومبارك وسوزان كانوا يأتون إلى الدويقة، وبينى بينهم مشاكل بسبب هذا الموضوع»، مشيرا إلى أن مساكن سوزان ستار للتنقيب عن الآثار، لافتا إلى أن مجموعة من المسؤولين والموجودين فى سجن طره كانوا «حاطين عنيهم» على منطقة الدويقة للتنقيب.
"شيشة" أحد معدات المافيا أثناء التنقيب
ويستطرد الدكتور جمال مؤكدا وجود خرائط بمحافظة القاهرة، تهدد بانهيار الدويقة، بسبب وجود فراغات تحت الأرض، وتحذر هذه الخرائط من بناء أية وحدات سكنية، فى تلك المنطقة، مشيرا إلى أن حسين سالم رجل الأعمال الهارب كان له شركة مقاولات تعمل فى عملية التنقيب بالمنطقة، وزعم الدكتور جمال بوجود علاقة عمل تربطه بعمر سليمان نائب الرئيس المخلوع، وزكريا عزمى، متطرقا إلى تفاصيل إحدى العمليات السابقة التى قام بها مع أحد أبناء المخلوع، بقوله: «علاء جه بالطياره فى حضور خواجه ألمانى لاقتسام الآثار فى عملية قبل كده» كاشفا أن عملية التنفيب الحالية يتبقى على انتهائها 15 يوما.
لحظة خروج محرر اليوم السابع من المغارة
لحظة دخول النفق
جاءت اللحظة الحاسمة عندما دقت ساعة الصفر ودقت معها ضربات قلبى، فالأمر ليس هينا، إذ إن دخول «مغارة» شديدة السواد وسط مافيا قلوبهم أشد سوادا، جعلتنى أتردد فى استكمال المهمة تحسبا من دفنى داخل المقبرة مع أجدادى الفراعنة، اخترت يوم28 يناير لتنفيذ المهمة، لما له من ذكرى خالدة ألا وهى جمعة الغضب، وتمنيت أن يرتبط هذا بسقوط أكبر مافيا لتجارة الآثار بالدويقة.
اليوم السابع مع الدكتور جمال زعيم المافيا
وفى تمام الثانية عشرة بعد منتصف الليل اتصلت بعصام فى الموعد المحدد لمقابلة «المافيا» ولكن المفاجأة كانت أن شخصا آخر أجاب بقوله «عصام مش موجود» فظننت إصابته بمكروه، وتركت المكان الذى نلتقى فيه وجلست على مقهى فى مكان بعيد وبعد ساعة عاودت الاتصال ليجيبنى عصام هذه المرة، والتقينا بعم محمد وتوجهنا إلى «النفق»، وعلى مدخله، استوقفنا صوت عال يردد «من هناك»، فأنقذ الموقف صوت الدكتور جمال: «ده عصام وإسلام تبعنا»، ومع ذلك لم نسلم من نظرات الشك لجميع الحاضرين التى بثت الرعب فى قلوبنا.
اليوم السابع مع الدكتور جمال زعيم المافيا
كادت أن تفشل المغامرة بعد أن اعترض أحد أفراد المجموعة على وجودى محاولا إثنائى عن دخول المغارة بادعائهم عدم وجود إضاءة بعد أن تلف سلك الكهرباء الذى يتم توصيله من المسجد القريب منها، قائلا لى «وشك حلو يا معلم.. الخير على قدوم الواردين»، ولم ينقذ الموقف إلا دعوة الدكتور جمال بأن نتناول الشاى فى غرفته الخاصة حيث أقنعناه أنه لا يصح لأحد أن يراجع قراره، مما جعله يصدر قراره المنتظر بأن يصحبنا شخص اسمه شعبان للدخول، وفور وصولنا إلى المكان المراد جاءت المفاجأة برفض شعبان دخول المغارة قائلا «أنا مهمتى انتهت لحد كده الساعة 3 الفجر ومش حقدر أنزل أخاف الحارس الجن يلبسنى».
شعبان أحد أفراد العصابة
الصعوبة لم تكن فقط عند هذا الحد، حيث أخبرنا شعبان، عدم وجود إضاءة داخل النفق، بعد إتلاف سلك الكهرباء، مطالبنا بالاعتماد على ضى الولاعة.
«بسم الله توكلت على الله» هى كلمة السر التى استخدمناها فى فك شفرة كسر الرعب الذى قد ينتابنا مع إزالة كل صخرة تفصل بيننا وبين العالم المجهول الذى نستعد لدخوله عبر «فتحة المغارة» التى لا تسمح سوى بالانثناء من أجل الدخول، فى تلك اللحظات، كنا نسمع دقات قلوبنا من فرط سرعتها، إذ لم يكن يواجهنا سوى أشباح ظلام دامس، كان يجب علينا أن نزحف على بطوننا 5 أمتار، ثم فى نهاية الممر ننحدر يمينا، ونستكمل الزحف على الحجارة لمسافة 6 أمتار، ثم ننبطح أكثر فى مواجهة ممر على اليسار، قبل أن نفاجأ بوجود نفق بعمق 20 مترا، مما ضاعف من صعوبة المهمة.
الرغبة فى كشف لغز النفق الغامض دفعتنا إلى التضحية بما تبقى فى عروقنا، وعلى ضوء شعلة ولاعة السجائر، هبطنا على أحبال «سلبه»، وبعد الوصول مع عصام إلى قاع البئر، وجدنا سردابا أكثر ضيقا وبالزحف على مسافة 7 أمتار وسط الصخور، فوجئنا ببئر آخر بعمق 8 أمتار قبل أن نصل إلى نهاية النفق الغامض.
هنا يضع عصابة المافيا معداتهم داخل غرفة كبيرة، تخيلت أننى سأجد عليها نقوشا، مثل تلك التى نراها فى المتاحف، لكن جدرانها كانت عادية، وإن أوحت أن وراءها كنوزا يتلهف لصوص الآثار للوصول إليها.
بجانب معدات الحفر، وجدنا أدوات أخرى يستخدمها أفراد العصابة فى الترويح عن أنفسهم، مثل «الشيشة» و«عدة الشاى» إضافة إلى الهوايات المحفورة بالجبال التى برر زعيم المافيا وجودها لمساعدة العمال فى عملية التنفس، أثناء العمل، خلال الـ15 يوما المتبقية لهم للوصول إلى ضالتهم، حسبما أكد لى زعيمهم.