ربما لا يوجد كتاب يصف عهد الرئيس المصري محمد حسني مبارك بدقة وموضوعية، مستخدما عبارات رشيقة وعناوين جذابة مثل هذا الكتاب، الذي كانت نواته سلسلة من المقالات الصحفية الأسبوعية، أثارت جدلا واسعا واهتماما كبيرا في أوساط النخبة السياسية المصرية.
فعبر 13 فصلا يقدم المفكر المصري البارز الدكتور جلال أمين أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأميركية بالقاهرة تشريحا لما آل إليه حال الدولة المصرية في عهد الرئيس مبارك متناولا عددا من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الهامة التي تمس حياة الناس مباشرة.
ويرى المؤلف أنه قد آن الأوان لأن نلقي نظرة شاملة على عهد مبارك بأكمله، فها قد مر أكثر من ربع قرن على تسلمه حكم مصر، وهي فترة طويلة بأي معيار.
ولكن قبل أن نلقي نظرة على محتوى الكتاب علينا أن نحي رئيسنا تحية حارة لما فعله ما سفعله وكذلك نحي الشعب المصري لمساندته للرئيس فيما يفعله
تفاؤل لم يدم طويلا
في مقدمة كتابه يرى المؤلف أن المصريين شهدوا في علاقتهم بمبارك (شهر عسل) لم يدم طويلا، فقد حرص الرئيس مبارك في بداية عهده على تهدئة الأوضاع السياسية في البلاد مع مختلف طوائف المعارضة، فقد بدأ بعد أسابيع قليلة من مقتل سلفه (السادات) باتخاذ قرار بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين الكبار، بل واستقبلهم في قصره بالترحيب والإكرام.
https://2img.net/r/ihimizer/img504/8083/190999113.jpg-الكتاب: مصر والمصريون في عهد مبارك
-المؤلف: جلال أمين
-عدد الصفحات: 260
-الناشر: دار ميريت, القاهرة
-الطبعة: الأولى/: 2009
وكان ذلك مصحوبا بالامتناع التام عن الأعمال التي كانت تستفز المصريين، كالظهور المستمر لقرينة الرئيس، ونشر صورها باستمرار في الصحف، حيث لقبت في عهد السادات بسيدة مصر الأولى، كذلك امتنع الرئيس الجديد عما دأب عليه السادات من استخدام عبارات جارحة في وصف معارضيه، أو تهديدهم بالسجن وأحيانا (بالفرم).
وفي فبراير/ شباط 1982 دعا الرئيس مبارك صفوة العقول الاقتصادية في مصر، من مختلف الاتجاهات، إلى مؤتمر لمناقشة الوضع المتردي للاقتصاد المصري، وهو حدث أشاع في نفوس الاقتصاديين المصريين الأمل في أن إصلاحا حقيقيا على وشك أن يتحقق، كما صحب كل ذلك عودة الصحف المعارضة إلى الظهور، بل وسمح للصحف الحكومية بمستوى من الحرية لم يعهد منذ قيام ثورة 1952، فشهد المصريون فترة ذهبية من حرية التعبير والنقد أشاعت تفاؤلا شديدا بما يمكن أن تصبح عليه الحياة السياسية في مصر.
لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلا، وبرأي المؤلف بدأت السماء تتلبد بالغيوم قبل انقضاء سنة واحدة على اعتلاء الرئيس مبارك كرسي الرئاسة، وبدأ اليأس يتسرب إلى النفوس شيئا فشيئا من أن يحدث أي إصلاح حقيقي في السياسة أو الاقتصاد.
نظرية الدولة الرخوة
في الفصل الأول من الكتاب ينظر المؤلف إلى الأوضاع في مصر من خلال نظرية عالم الاقتصاد السويدي الشهير جنار ميردال عن الدولة الرخوة، تلك الدولة التي يعدها ميردال سر البلاء الأعظم، وسببا رئيسا من أسباب استمرار الفقر والتخلف.
فهي دولة تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأنه لا يوجد في الدولة الرخوة من يحترم القانون، الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشى لغض البصر عنه، وفي هذه الدولة تباع الرخص والتصاريح، ويعم الفساد، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها رخاوة.
ويضيف المؤلف: عندما قرأنا ما كتبه الأستاذ ميردال في نهاية الستينيات عن الدولة الرخوة، لم يطرأ ببالنا قط أن كلامه يمكن أن ينطبق على مصر، فقد كانت مصر في ذلك الوقت أبعد ما تكون عن وصف الدولة الرخوة، ثم جاء عهد الرئيس مبارك، وكان كل يوم يمر منه يأتينا بدليل جديد على رخاوة الدولة المصرية.
"
عندما وقعت الهزة الأرضية عام 1992 كادت الدولة المصرية -من فرط رخاوتها-أن تسقط متهالكة على الأرض, ففي لحظات معدودة انكشف للجميع نسبة الأبنية المخالفة للقانون ولم يعاقب عليها أحد، والأدوار المحكوم عليها بالإزالة ولم يزلها أحد
"
ويسوق المؤلف حشدا من الأمثلة الدالة، فبعد عام واحد من حكم مبارك قامت إسرائيل باعتداءات صبرا وشاتيلا، فوقفت الدولة المصرية منها موقف المتفرج، ثم جاء حادث خطف الطائرة المصرية عام 1986 فلم يصدر من الدولة المصرية رد الفعل الملائم، ثم انهار مصرف النوبارية بزاوية عبد القادر ولم يعاقب الوزير المختص، ثم غرقت الباخرة سالم إكسبريس فأبدت الدولة تراخيا مدهشا في إنقاذ الركاب من الغرق، ثم انتشرت فضائح مذهلة عن وزارة البترول، وانتهت بخروج الوزير دون أن يقدم للمحاكمة، ثم أثيرت فضائح شركات توظيف الأموال، فتمكن أغلبية المحتالين من مؤسسيها من الهرب خارج البلاد سالمين.
ومن أهم الأمثلة التي يسوقها المؤلف تلك الحالة التي بدت عليها الدولة عندما تعرضت مصر لهزة أرضية عام 1992 لم تستمر أكثر من أربعين ثانية، فإذا بالدولة المصرية كلها -من فرط رخاوتها- تكاد تسقط متهالكة على الأرض. ففي لحظات معدودة انكشف للجميع نسبة الأبنية المخالفة للقانون ولم يعاقب عليها أحد، والأدوار المحكوم عليها بالإزالة ولم يزلها أحد، والآثار الواجبة الترميم ولم ترمم، والمدارس التي تجاوزت عمرها الافتراضي ومع ذلك سمح للتلاميذ بدخولها.