دعونا قبل أن نتناول خطاب الرئيس الأمريكي بالتحليل أو النقد أن نتفق على أن الرجل (باراك اوباما) ذو شخصية "كاريزمية" آسرة لأبعد الحدود، وربما يكون مرد ذلك إلى طبيعته البسيطة في الكلام والحركة والتي تلمس معها إحساساً عميقاً بالثقة في النفس، إلى جانب إجادة استخدام لغة الجسد وتعبيرات الوجه وإشارات اليدين وثبات الصوت وعدم التلعثم -إلا فيما ندر جدا ً- أثناء الحديث.
أقول ذلك بعدما تساءل البعض عن سر تلك الحفاوة الكبيرة التي قوبل بها خلال إلقائه لخطابه إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، ولم تكن تلك الحفاوة هي الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، ولعلنا نذكر الاستقبال الحافل لحوالي 200 ألف ألماني حضروا للاستماع إلى كلماته خلال زيارته لبلادهم وقت أن كان مرشحاً للرئاسة، وهي الحفاوة نفسها التي يستقبل بها في أي مكان يذهب إليه، وأعتقد أن جزءاً من هذه الحفاوة تمثل لدينا في تصفيق بسبب وبدون سبب خلال الخطاب .. وأرجو ألا يكون التصفيق قد جاء بتوجيه للطلبة الذين حضروا اللقاء كما يحدث باستمرار !!
أذكر أني حضرت خطاب التنصيب لأوباما مطلع العام الحالي ولا أنكر أني ذهلت لهذا العدد الهائل من الأمريكيين (2,5 مليون شخص) الذين تجمعوا في جو قارص البرودة ليتابعوا لحظة قسم أوباما لليمين وتسلمه السلطة، ولمحت في أعينهم توقيراً واحترماً وأملاً كبيراً في شاب أعاد إليهم فكرة إمكانية تحقيق الحلم الأمريكي ولمسوا فيه رغبة قوية في تغيير حقيقي للعديد من الأمور في بلاده وفي العالم
ولكن لازال السؤال عينه يدور في ذهني: لماذا يتوجه أوباما بخطاب ثان للعالم الإسلامي بعد ان كان قد وجه بالفعل خطاباً من تركيا؟ ولماذا كانت مصر بالتحديد هي الوجهة الثانية لهذا الخطاب ولم تكن السعودية أو اندونيسيا ؟ .
ولا يخفي اي مصري بالطبع سعادته لاختيار بلاده لمثل هذا الخطاب، ولكن في الواقع لم أتمكن من الوصول إلى أي حقيقة بشأن ذلك، ولم يخرج ما قرأته في محاولة الوصول لإجابة شافية للسؤالين عن أن مستشاري أوباما قد أشاروا عليه بضرورة توجيه الخطاب من مصر لأن خطابه الأول كان من دولة مسلمة علمانية وليست عربية، إلى جانب الدعم المصري المطلق للجانب الأمريكي في عدد من القضايا المحورية في المنطقة لعل أهمها قضية إيران وتبنيها لأجندة القضية الفلسطينية مما يجعلها أقوى حليف في المنطقة، كما أن مصر "الأزهر" تمثل منبر الإسلام المعتدل ونبذ التشدد والتطرف.
و لا يمكننا أن ننكر تضمن الخطاب لمجموعة من الإيجابيات، منها أنه لم يصف المقاومة الفلسطينية مثلا -أو حماس تحديداً- بالإرهاب، وتأكيده على ضرورة إقامة دولة فلسطينية يعيش مواطنوها داخل حدودها بأمان، وتأكديه على ضرورة وقف إنشاء المستوطنات الإسرائيلية ومنها أيضاً تأكيده على حق المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب وألا يكون ارتداؤها إياه عاملاً للتقليل من الشأن أو الاضطهاد أو المنع من العمل أو التعليم، وأيضاً استشهاده بعدد من الآيات القرآنية خلال حديثه مما أعطى انطباعاً جيداً عن معرفته بطبيعة الشعوب العربية والإسلامية والتأثير الإيجابي لذلك عليها -وهو ما كان - إضافة إلى حديثه عن أسرته وأصوله الإفريقية وإشادته بالحضارة الإسلامية وتأكيده من خلال الأمثلة على أنها مهدت لقيام الحضارة الغربية بما أنجزته الأولى من فتوحات كبرى في المجالات المختلفة، بالإضافة إلى تعهده بسحب قواته من العراق بحلول عام 2012 وإصداره الأمر بالتوقف عن استخدام الأساليب المثيرة للجدل خلال التحقيقات مع المشتبه فيهم بتهم الإرهاب إلى جانب محاولاته لإغلاق معتقل جوانتانامو سيئ السمعة .
إلا أن الاختيار قد أثار حفيظة العديد من قوى المعارضة في الداخل والخارج واعتبروه بمثابة إشارة على استمرار الدعم الأمريكي للأنظمة "المعتدلة" في المنطقة بغض النظر عن سجلها في مسألة حقوق الإنسان، إضافة إلى أنه سيعطي انطباعاً خاطئاً بأن مصر مازالت هي تلك الدولة القوية المحورية في المنطقة، وهو أمر يجافي الواقع -بحسب قولهم- ويعد بمثابة المكافأة لمصر على مواقفها المساندة لأمريكا.
أمر آخر أثار استياء أو غضب البعض وهو إصراره على الحديث عما يسمى بالمحرقة النازية متوجهاً بكلماته إلى العالم العربي والإسلامي الذي يشكك وبشدة في مدى صحة المعلومات التي اتخذت بسببها القوى الصهيونية كافة دول العالم الغربي مطية لأهوائها ووسيلة لتحقيق طموحاتها بإلزامها بالتعويض المستمر مدى الحياة عن أمر مشكوك في صحته من الأصل، وضرورة إبداء الندم والبكاء بسببه باستمرار على من يقال إنهم 6 ملايين يهودي راحوا ضحايا للكراهية العرقية (أرجو من القارئ العزيز العودة إلى كتاب الرائع روجيه جارودي "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" في هذا الشأن) مختتماً كلامه في هذا السياق بأن " نفي هذه الحقيقة أمر لا أساس له وينم عن الجهل وبالغ الكراهية" !!.
أيضاً شدد أوباما على أن اللجوء إلى السلاح والقوة لن يكفل للفلسطينيين تحقيق أمالهم في العيش بسلام وإقامة دولتهم، وأن الصواريخ وغيرها من سبل المقاومة "العنيفة" لن تحل الأمر فقال: "إن إطلاق الصواريخ على الأطفال الإسرائيليين في مضاجعهم أو تفجير حافلة على متنها سيدات مسنات لا يعبر عن الشجاعة أو عن القوة"، " كما يجب على الفلسطينيين أن يتخلوا عن العنف.. إن المقاومة عبر العنف والقتل أسلوب خاطئ ولا يؤدي إلى النجاح" وهي وجهة النظر الغربية نفسها والتي لن تتغير على الإطلاق حتى صار لدينا قناعة باستحالة تقبل أو تفهم لطبيعة المقاومة الفلسطينية طالما أن الأمر يهدد أصغر حيوان يعيش داخل إسرائيل (ناهيك عن البشر الذين تخاض من أجل حروب طاحنة) وحتى إذا ما افترضنا جدلاً أنهم فهموا فلن يتقبلوا إطلاقاً أن ما يفعله الفلسطينيون يدخل في إطار الدفاع المشروع عن النفس أمام آلة حربية جُل قٍوَامُها هو الترسانة الأمريكية التي يدفع فاتورتها دافع الضرائب الأمريكي، لتكون أمريكا وهي تحاول حل القضية تمد القاتل بالسلاح وتعين الدول المجاورة على كشف محاولات نقل السلاح إلى الضحية .. وهو الأمر نفسه الذي وقع في البوسنة والهرسك لو تذكرون ، مطالبا الفلسطينيين بانتهاج النهج السلمي الذي انتهجه السود في أمريكا للوصول إلى حقوقهم "بل كان السبيل إلى ذلك إصرارهم وعزمهم السلمي على الالتزام بالمثل التي كانت بمثابة الركيزة التي اعتمد عليها مؤسسو أميركا".
أمر آخر لم ولن تتغير بشأنه السياسة الأمريكية وهو حيازة الدول الأخرى للقوة النووية، فممنوع على أي دولة أن تحوز تلك القوة (وكلنا نشهد الأزمة المتصاعدة مع كوريا الشمالية) ويصبح الأمر في حكم الاستحالة إذا ما كانت تلك الدول مجاورة لإسرائيل، وإذا ما أرادت دولة ما حيازة القوة النووية للأغراض السلمية فلا بد أن تفتح كافة منشأتها أمام التفتيش الدولي مهما مثلت هذه المنشآت من انعكاس لسيادة الدولة وفقاً لقرارات الهيئة الدولية للطاقة الذرية، ولكن على الجانب الآخر يظل المبدأ الأثير بشأن القوة النووية الإسرائيلية "Don`t say ... Don`t tell" باقياً، فلا مجال لإخضاع إسرائيل لأي قوانين دولية ولا مجال لأي تفتيش عليها، وبالتالي فإن السياسة الأمريكية لن تتنازل أبداً عن سياسة المعايير المزدوجة في هذا الشأن.
وأخيراً وبشأن مسألة الديمقراطية تحدث أوباما بكلمات غريبة قائلاً بأن لكل دولة خصوصيتها النابعة من تراثها وطبيعتها (لا أدري أين سمعت هذا الكلام من قبل!!) ولكنه وجه كلمات (اعتقد أن الأمر لن يخرج أبداً عن إطار الكلمات) بان "الحكومة التي تتكون من أفراد الشعب وتدار بواسطة الشعب هي المعيار الوحيد لجميع من يشغلون مراكز السلطة، بغض النظر عن المكان الذي تتولى فيه مثل هذه الحكومة ممارسة مهامها، إذ يجب على الحكام أن يمارسوا سلطاتهم عبر الاتفاق في الرأي وليس عبر الإكراه" .. وكفى الله المؤمنين القتال !!.
وختاماً، أرجو ألا تأخذنا نشوة الفرح بخطاب وردت فيه العديد من الإشارات الإيجابية تجاه الإسلام والمسلمين إلى حد نتصور معه إمكانية تحقيق كل أو بعض ما سبق، فالرجل في النهاية محكوم بأجندة لا يمكن أن تتغير وما يمكن أن يحدث فقط هو تغيير طريقة التنفيذ، كما لا يمكننا أن ننسى أن الجناح اليميني المحافظ و